غاية المعنى
إن التساؤل حول القضايا الجوهرية في حياة الإنسان لا يمكن أن يتم بطريقة سليمة إن هو تجاوز مدخل اللغة بنفس القدر الذي لا يمكن فيه بتاتا التعرف على شيء أو مخلوق أو إنسان أو التواصل معه دون معرفة اسمه. إنه تمرين بسيط يمارسه الإنسان بشكل واع أو غير واع كل يوم في حياته وعلى جميع الأصعدة، من الاكتشافات العلمية الكبرى، إذ لا يوجد حجر أو كوكب أو كائن جديد اكتشف ولم يسم، والاسم والتسمية في العربية من السمو، بمعنى أن من لا اسم له لا وجود له، إلى التعارف اليومي بين الأفراد، لكن ربما قلة قليلة من ينتبهون إلى هذه الخاصية الإنسانية التي علمها الله للإنسان (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، سورة البقرة، الآية 31). ولأن الاسم هوية الشخص أو الشيء فإن اللغة هوية الإنسان ومنطقه وثقافته وبالتالي لا يمكن لمن أراد أن يطرح قضايا الإنسان والمجتمع طرحا سليما وصادقا أن يتجاوزها. لكن و للأسف، أصبحت عملية تجاوز اللغة تتم بشكل عفوي وتلقائي بدعوى أن اللغة وعاء (وهو أذل اختزال تعرضت له هوية الإنسان في التاريخ)، وهو راسب من رواسب التعليم المدرسي الفاشل في البلاد العربية بأسرها، ولا أذل على ذلك أنك لا تجد أثرا لهذا الحكم خارج المتحدثين المعاصرين باللغة العربية. ولعل هذه الأهمية المركزية للغة في حياة الإنسان هي ما يجعلها المستهدف الأول لدعاة اللا معنى، الذين يتوسلون لذلك مقولات مغرضة من بينها أن العلاقة بين الاسم والمسمى اعتباطية وبالتالي فلسان الإنسان ولغته لا يهمان بقدر ما تهم الرسالة في الخطاب. ويمكن الوقوف هنا حد السؤال: كيف يكون لكلامي معنى إذا كنت أكتب باللغة التي لا تحملني وتحمل ثقافتي وكنت أنا من يخترع الكلمات بهدف التواصل اللحظي والتي تنسى بمجرد وصول "الرسالة"؟ بل وأضيف سؤال آخر، من حياتنا اليومية البسيطة: هل نذكر كل ما نقول؟ وهل كل الكلمات التي يتفوه بها أحدنا حاملة لمعنى ما؟
إنبات المعنى
أسئلة من بين أخرى قد تتناسل بشكل منطقي لتوصلنا إلى معطى مفاده أن المعنى يبنى ويستنبت بأدوات يشكل تركيبها جوهر الإنسان، يمكن أن نلخصها في عبارة أبي سعيد الصيرفي في كتاب التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة" (والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد)، وهو ما يسمى بلغة العصر الروح النقدية. النقد، تلك الكلمة التي جعل منها الإعلام والتعليم سبة وحملها معاني قدحية، ورسخ في الأذهان صورة كاريكاتورية لممارسها،أي الناقد الذي ما إن تذكر صفته حتى يتبادر إلى الذهن صورة شخص أشعت أغبر يحمل جرائد وكتبا صفراء بأيدي شاحبة وأصابع تنتهي إلى أظافر صفراء من شدة ما دخن من تبغ رخيص ... حتى خلفت لدى عامة الناس، وحتى من يعتبرون من وجهة نظر معينة خاصتهم، رهابا نقديا. و لا أعتقد أنه يمكن العمل على السمو بالمعنى في الحياة دون مصالحة مع هذه الوظيفة المعنوية، وظيفة النقد، من حيث هو تساؤل مستمر حول أصح المعاني وأدومها وأكثرها ثباتا، ومن حيث هو تعبير عن النزاهة الفكرية للسائل والمسؤول، وليس من حيث هو آلة هدم مجاني من أجل الهدم والتفاخر بأطنان التراب الناتجة عنه.
و إن إنبات المعنى واستنباته لا يكون أبدا بالاعتباط والعبث والتسرع والتعصب والخفة، ولم يثبت أن شيئا مما رشح لنا من الجواهر الفكرية للأمم التي سبقتنا فوق الأرض كان نتيجة ذلك، لأنه سواء تعلق الأمر بجمع الحديث النبوي الشريف في بلاد الإسلام أو بكتب حكماء الصين أو العلماء أو المؤرخين أو الأدباء في شتى بقاع العالم، هناك خيط واحد يربط بين كل الإنتاج البشري الحامل للمعنى: الصدق في المقصد أولا، وابتغاء الخلود (الذي يتخذ صفة الصدقة الجارية عند المسلمين)، لأن المعاني خالدة تتجاوز أصحابها وليست مجرد مزحة لحظية، وإضناء النفس وتجاوزها ونكرانها لهذه الغاية. وكما لا يمكن إضفاء المعنى على شيء أو عمل أو قول لا يحتمله، فإنه لا يمكن استنباته من لا شيء كما لا يمكن إنبات الشجر دون تربة وعناصر مغذية أو الخلايا في المختبر دون وسط حيوي، وذلك عكس ما ذهبت إليه بعض النظريات الفلسفية والأدبية الحديثة التي تبين في قليل من الوقت مدى فشلها بسبب استصغارها لقيمة الإنسانية باسم مقاربة قاصرة للحداثة.
هل الإنسان هو الذي يصنع المعنى ويُحَمّل ما حوله المعاني التي يريد؟ أم أن المعاني تتجاوز إحساس الإنسان وإدراكه؟ إن من مخاطر ما يمكن أن نسميه إيديولوجية المعنى هو تكرسيها حرية التأويل المغرض التي تجعل الفرد يؤمن بأن لا معنى إلا ما يضفيه هو على النصوص أو الأحداث أو الوقائع حتى صار التأويل آلية تستعمل بشكل تلقائي وكأنه ضرورة حتمية تتأسس على خلفية الإيمان المطلق للفرد بسيادته بعقله على كل العناصر، وهي خلفية لا شك في نشوءها من فلسفة البطل النيتشوي ، نسبة إلى الفيلسوف الألماني Nietzsche، وهو القائل بأن كل ما يعتبر حقائق لا يعد كونه مجرد تأويلات. وهي الايديولوجية التي انضافت إليها أخريات، من المخلفات المادية لنفس الثقافة، أعطت لمفهوم العمل بعدا حركيا فيزيائيا، بمعنى أن المفكر مثلا شخص سلبي يكتفي بالنقد وبالتالي لا يعمل ! و رهنت كل شيء بحساب و رقمنة وتقييم عددي، حتى صارت المعاني تكتسب وفق مقاربة كمية، وهي مقاربة يمكن إثبات محدوديتها انطلاقا من تساؤل حول هذا المقال نفسه: هل يمكن أن نعتبر هذا المقال حاملا لمعنى معين إذا نحن اكتفينا بحساب عدد المرات التي تكررت فيها كلمة "معنى" فيه؟
عنوان المعنى
وعلى أساس ما سبق، يتبين لنا أن عنوان المعنى السياق وسمته الاستدامة والتداول داخل دولة التاريخ الإنساني الذي يعد اختبار صمود كل من يدعي المعنى في قول أو عمل أمام تقلبات مزاج الزمن والإنسان، الذي وإن كان النسيان آفته فإن الذاكرة صفته، والتي قد تسترجع بعد حين ما نسي في حينه إذا كان حاملا للمعنى، فكم من كتاب أو نظرية علمية أو عمل أدبي أو فني تناسته الأجيال التي عاصرته ومات صاحبه في غم من تنكر معاصريه له، أحياه الله في ذاكرة اللاحقين.
هَمُّ المعنى
ومن هذه النقطة الأخيرة، يتبين لنا بشكل جلي كيف يمكن أن يكون المعنى وصناعته والاجتهاد من أجله هَمّا يحمله الساعي إليه. إذا كانت المعاني لا تستنبت من فراغ بالاعتباط والعبث والتسرع والتعصب والخفة، وغايتها الخلود والدوام وتمتحن بامتحان الزمن والتاريخ، فكيف يمكن أن تكون ترفا؟ وكيف يمكن تحقيقها دون صبر ومكابدة ومعاناة؟ وكيف تحقق المعنى لمن لا يحمل همه؟
ومعنى ذلك ..
المعاني كونية وليست واحدة أو موحدة، بمعنى أن الألماني والمغربي والياباني يتفقون على أن للحياة معنى لكنهم يختلفون في ماهية ذلك المعنى حسب الوجه الذي تقتضيه ثقافة وتاريخ وقيم كل واحد منهم. والاختلاف، ليس حقا ولا واجبا ولا ترفا فكريا أو رياضة خطابية ولغوية وإنما قيمة تقتضي مسؤولية أخلاقية بالتالي فإنني عندما أختلف معك في معنى ما، فذلك لا يعني أنني أناصبك العداء لأن المتحدث فينا ليس ذاتيتنا والتي يجب علينا إعمال جهد كبير لإلغاءها وإحلال الروح النقدية محلها، حتى نستطيع أن نرى في بعضنا البعض أفكار تتدافع من أجل إضفاء المعنى على أعمالنا، كما لا يعني أن الاختلاف بيننا لعبة تجعلني أو تجعلك " تفرح بتقليدي لك وإن كنت على باطل أكثر مما تفرح باستبدادي وإن كنت على حق"* وأن نحرص على أن يكون هذا الاختلاف وسيلتنا لتحقيق المعنى و مدخلنا إلى الأخلاق أولا وإلى المعرفة ثانيا ومن تم إلى الجمال، وهي قيم عكس الاختلاف، واجبة وحقة.
لنعمل، كل على شاكلته، من أجل تحقيق المعنى في القول والعمل ولنترك الحساب للزمن وللتاريخ ولرب العباد.
رشيد فضيل أظهر الكل ..
تحميل ..
نُبْذة
Rachid Fadil
@rachidfadil
عضو 2016-09-26 09:58:55
المكتبة مشاهدة الكل
المتابِعون (53)
مشاهدة الكل
المتابَعون (1)
مشاهدة الكل