أسوأ الأوضاع أن يعيش الإنسان عيشتين، إحداهما بينه وبين قناعاته
التي لا يستطيع إظهارها، والأخرى بينه وبين الناس مظهرًا لهم ما
يريدون!
الأمر يدور بين وصفين، أحدهما موجع، وهو النفاق، والآخر أقل وقعًا، وهو المداراة، فكلاهما يعنيان أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، والفرق في كون المنافق يبطن السوء، ويظهر خلافه، والمداري، يبطن أفضل مما يظهر، هو يبطن قناعاته التي يراها أحق مما هو مضطر على الموافقة عليه من آراء غيره، فما يمنعه ليس سوى حالة من عدم الاستعداد، قد يتخطاها إذا قرر الهجرة، وإلا فالد ...
أسوأ الأوضاع أن يعيش الإنسان عيشتين، إحداهما بينه وبين قناعاته التي لا يستطيع إظهارها، والأخرى بينه وبين الناس مظهرًا لهم ما يريدون!
الأمر يدور بين وصفين، أحدهما موجع، وهو النفاق، والآخر أقل وقعًا، وهو المداراة، فكلاهما يعنيان أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، والفرق في كون المنافق يبطن السوء، ويظهر خلافه، والمداري، يبطن أفضل مما يظهر، هو يبطن قناعاته التي يراها أحق مما هو مضطر على الموافقة عليه من آراء غيره، فما يمنعه ليس سوى حالة من عدم الاستعداد، قد يتخطاها إذا قرر الهجرة، وإلا فالدخول في معركة مع الأكثرية تحتاج إلى استعداد، وشجاعة.
الأمر كذلك في كثير من أمورنا، عاداتنا، تقاليدنا، حكمنا على الأشياء، موروثاتنا بما فيها معتقادتنا، لذا فالأنبياء عندما يرسلهم الله يكون الأمر بالنسبة إليهم، وإلى أتباعهم أشبه بثورة، وقد تتحول إلى معركة كما حدث مع النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، هذه المعركة التي ضحى فيها المؤمنون بالتغيير بأرواحهم، وأموالهم.
إن الأمر بالنسبة إلى المعاصرين لعلمية التغيير قد يبدو جللاً، وقد يبدو كنهاية العالم، وقد يصل بهم إلى درجة من التعاسة، واليأس فيجابه بعضهم الموجة، لتأخذه كما أخذت أبا جهل، وأبا لهب، وكما أخذت من أعدمتهم الثورات، ومن ألقت بهم رياح التغيير في مهاوي التهميش، والانزواء، لكنه بالنسبة إلى من يأتي بعدهم حتيمة تاريخية لولالها لما كانوا على ما هم عليه.
إن فهم ديناميكية سياسة الدفع وطبيعتها، تلك التي أشار إليها القرآن الكريم، من شأنه أن يخفف من وطأة الأحداث الجسام على المعاصرين، ومن شأنه كذلك أن يوجه رياح التغيير بما يقلل الخسائر قدر الإمكان، والأمر ربما يقودنا إلى إعادة ما بدأنا به، وهو صعوبة إذاعة الفهم المبني على سلامة الاستنتاج، طالما أن الأفهام قد توجهت إلى التبرير والانتصار للرأي، فالأمر قد يقود إذن إما إلى الهجرة، أو الدخول في معركة أو معارك جانبية، أو المداراة.
أسوأ الأوضاع أن يعيش الإنسان عيشتين، إحداهما بينه وبين قناعاته
التي لا يستطيع إظهارها، والأخرى بينه وبين الناس مظهرًا لهم ما
يريدون!
الأمر يدور بين وصفين، أحدهما موجع، وهو النفاق، والآخر أقل وقعًا، وهو المداراة، فكلاهما يعنيان أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، والفرق في كون المنافق يبطن السوء، ويظهر خلافه، والمداري، يبطن أفضل مما يظهر، هو يبطن قناعاته التي يراها أحق مما هو مضطر على الموافقة عليه من آراء غيره، فما يمنعه ليس سوى حالة من عدم الاستعداد، قد يتخطاها إذا قرر الهجرة، وإلا فالد ...
أسوأ الأوضاع أن يعيش الإنسان عيشتين، إحداهما بينه وبين قناعاته التي لا يستطيع إظهارها، والأخرى بينه وبين الناس مظهرًا لهم ما يريدون!
الأمر يدور بين وصفين، أحدهما موجع، وهو النفاق، والآخر أقل وقعًا، وهو المداراة، فكلاهما يعنيان أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن، والفرق في كون المنافق يبطن السوء، ويظهر خلافه، والمداري، يبطن أفضل مما يظهر، هو يبطن قناعاته التي يراها أحق مما هو مضطر على الموافقة عليه من آراء غيره، فما يمنعه ليس سوى حالة من عدم الاستعداد، قد يتخطاها إذا قرر الهجرة، وإلا فالدخول في معركة مع الأكثرية تحتاج إلى استعداد، وشجاعة.
الأمر كذلك في كثير من أمورنا، عاداتنا، تقاليدنا، حكمنا على الأشياء، موروثاتنا بما فيها معتقادتنا، لذا فالأنبياء عندما يرسلهم الله يكون الأمر بالنسبة إليهم، وإلى أتباعهم أشبه بثورة، وقد تتحول إلى معركة كما حدث مع النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، هذه المعركة التي ضحى فيها المؤمنون بالتغيير بأرواحهم، وأموالهم.
إن الأمر بالنسبة إلى المعاصرين لعلمية التغيير قد يبدو جللاً، وقد يبدو كنهاية العالم، وقد يصل بهم إلى درجة من التعاسة، واليأس فيجابه بعضهم الموجة، لتأخذه كما أخذت أبا جهل، وأبا لهب، وكما أخذت من أعدمتهم الثورات، ومن ألقت بهم رياح التغيير في مهاوي التهميش، والانزواء، لكنه بالنسبة إلى من يأتي بعدهم حتيمة تاريخية لولالها لما كانوا على ما هم عليه.
إن فهم ديناميكية سياسة الدفع وطبيعتها، تلك التي أشار إليها القرآن الكريم، من شأنه أن يخفف من وطأة الأحداث الجسام على المعاصرين، ومن شأنه كذلك أن يوجه رياح التغيير بما يقلل الخسائر قدر الإمكان، والأمر ربما يقودنا إلى إعادة ما بدأنا به، وهو صعوبة إذاعة الفهم المبني على سلامة الاستنتاج، طالما أن الأفهام قد توجهت إلى التبرير والانتصار للرأي، فالأمر قد يقود إذن إما إلى الهجرة، أو الدخول في معركة أو معارك جانبية، أو المداراة.
تداركَ لحظُك الأخّاذُ قلبي .. بسهمٍ وقتما أزِفَ الفراقُ
فوافقَ خاليًا من كلّ خلٍ .. وإن كثُر المعارفُ والرفاقُ
بقلبي قد تملّك منه شطرا .. وشطرٌ للجوى فهو الوجاقُ
كتبت الشعرَ أسلو بعد شوقٍ .. فكان مدادُه دمعًا يُراقُ
كأنّي اليومَ أزجيتُ المطايا .. يُراودُني حنينٌ واشتياقُ
إلى المختارِ سيدِنا النبيّ .. هو الماحي إذا عمّ النفاقُ
تلألأ في سماءِ الدّهر بدرًا .. وليس لنوره أبدًا مَحَاقُ
مكثتُ أمامَ روضتِه قليلا .. كعبدٍ آبَ أضناه الإباقُ
وقد ضاقتْ علي ...
تداركَ لحظُك الأخّاذُ قلبي .. بسهمٍ وقتما أزِفَ الفراقُ
فوافقَ خاليًا من كلّ خلٍ .. وإن كثُر المعارفُ والرفاقُ
بقلبي قد تملّك منه شطرا .. وشطرٌ للجوى فهو الوجاقُ
كتبت الشعرَ أسلو بعد شوقٍ .. فكان مدادُه دمعًا يُراقُ
كأنّي اليومَ أزجيتُ المطايا .. يُراودُني حنينٌ واشتياقُ
إلى المختارِ سيدِنا النبيّ .. هو الماحي إذا عمّ النفاقُ
تلألأ في سماءِ الدّهر بدرًا .. وليس لنوره أبدًا مَحَاقُ
مكثتُ أمامَ روضتِه قليلا .. كعبدٍ آبَ أضناه الإباقُ
وقد ضاقتْ عليه الأرضُ ضيقًا .. وضيقُ الأرض شيءٌ لا يُطاقُ
وأعياني البيانُ وصار جسمي .. كأن بكاحلي شُدّ الواثقُ
وناجيتُ الإله أيَا إلهي .. أيا رحمنُ وإليك المساقُ
تسابقتِ الرّكابُ إليك ترجو .. رضَاك وإنّه نعم السباقُ
ظلمتُ النفسَ فاغفر يَا إلهي .. فليس لظالمٍ أبدًا خلاقُ
هي الدُّنيا ديارٌ ليس تبقى .. ويبقى الذكرُ منها والرقاقُ
بعثتَ مُحمدا فينا رسولا .. فما أثناه صدٌ أو شقاقُ
على كتفيه قد ألقيتَ حِمْلا .. تنوء بحمله السبعُ الطباقُ
فبلَّغَ ما أردتَ وقدْ رضِينا .. لترضى حينما يأني الفراقُ
فصلّ عليه يا الله دوما .. لعل بفضلها كان العتاقُ
د. عبدالمجيد قاسم
سرت.. ليبيا.. 5 سبتمبر 2019م
أظهر الكل ..النقاب
(قصة قصيرة)
د. عبدالمجيد قاسم
كانت لدمامتها محل ازدراء البعض، وموضع شفقة البعض الآخر، وكان إخوتها الذين لم يكونوا أجمل منها لولا أنهم ذكور، و(الذكر ما يعيبه شي) في الثقافة المحلية ينعتونها بالشينة!
كانت ترى قبحها في عيون المدرسات في المدرسة، وفي عيون زميلاتها، بل وفي عيون عاملات النظافة اللواتي ربما قذفت إحداهن بتلك العبارة التي عرفت حليمة معناها مبكرًا (خلقة ربي)، أو(تستور ملايكتها)..
لم تكن تتحدث كثيًرا مع أحد، فالحديث إذا كان بصحبة واحدة أو أكثر من زم ...
النقاب
(قصة قصيرة)
د. عبدالمجيد قاسم
كانت لدمامتها محل ازدراء البعض، وموضع شفقة البعض الآخر، وكان إخوتها الذين لم يكونوا أجمل منها لولا أنهم ذكور، و(الذكر ما يعيبه شي) في الثقافة المحلية ينعتونها بالشينة!
كانت ترى قبحها في عيون المدرسات في المدرسة، وفي عيون زميلاتها، بل وفي عيون عاملات النظافة اللواتي ربما قذفت إحداهن بتلك العبارة التي عرفت حليمة معناها مبكرًا (خلقة ربي)، أو(تستور ملايكتها)..
لم تكن تتحدث كثيًرا مع أحد، فالحديث إذا كان بصحبة واحدة أو أكثر من زميلاتها لا يتوجه إليها، والعيون إذا نظرت إليها تشيح عنها بسرعة البرق، ومقعد الدراسة لم يكن يشاطرها فيه أحد سوى من هن في مرتبة قريبة منها، وجلوسها دائما في آخر مقعد، فزميلاتها يمنعنها من الجلوس بجانبهن في المقاعد الأول.
كانت حاجياتها، وأدواتها المدرسية، وحقيبتها، أقرب إليها من البشر المحيطين بها، وكثيرا ما كانت تشعر بأن بينها وبين تلك الأشياء لغة لا يعيها سواها، وأنها أقرب إليها من غيرها.
كبرت حليمة، وشبت، وهي تضمر في نفسها لوعةً وحرقةً منعتها حتى من الوقوف أمام المرآة بسبب ما تراه في نفسها ويراه الآخرون فيها، وحتى ذاك الشاب الذي كانت تشعر بميول تجاهه، وكان يعمل بالمحل المقابل لبيتها، كان هو الآخر يهرب بنظراته عنها كلما التقت عيناها بعينيه، ولم تكن تدري أعن شعور يبادلها أياه؟ أم عن ازدراء لها؟!
لم يكن الأمر برغم وقعه عليها، يصل بها إلى درجة البكاء، لكنها كانت دائمة التفكير فيه، وكانت أحيانًا تقرر أنها لن تخرج من البيت، وفي أحيان كثيرة وهي في مرحلة الطفولة كانت تدعي المرض كي لا تذهب إلى المدرسة، وكانت أيام العطلات أفضل أيامها، ليس لأنها متعثرة في الدراسة، بل لأن المدرسة باتت سجنها الانفرادي، وهي ترى نفسها وقد أحاطت بها قضبان الإبعاد، والإقصاء.
إن الغربة التي عاشتها حليمة هي التي جعلتها في يوم من الأيام تقرر أن تضع بينها وبين المجتمع سياجًا حقيقيًا يحجب دمامتها عن أعين الناس، لقد قررت أن تحجب عن الناس ما كان يمثل لها وصمة عار، قررت أن تكون الأنثى بصوتها وهيئتها لا بوجهها وملامحها، قررت أن تغزو هذا العالم المحيط الذي طالما كانت منه في زاوية المراقب دون المشارك، فقد كان الجميع -عدا أمها- يأخذ منها خطوة إلى الخلف، ولم يكن لديها الجرأة سوى على البقاء في مكانها، أو التراجع بدورها خطوة إلى الخلف.
لقد قررت أن ترتدي بزة الغطس، لتبحر في أعماق هذا المجتمع الذي طالما كانت فيه وحيدة، مغيبة، تقف على شاطئه وغير مسموح لها بأن تمتزج بمكوناته!
في مساء اليوم الذي اتخذت فيه قرارها طلبت من أخيها الكبير (مسعود) أن يشتري لها نقابًا، كانت آنذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وقد زادها دمامة على دمامتها حب الشباب الذي غزا وجهها، ولم يكن مسعود أخوها من النوع الذي يقف عند التفاصيل، فقد كانت تطلب منه أن يشتري لها أشياء كثيرة، لم يكن يعرف حتى استعمالات بعضها، لذا أخذ النقود التي أخذتها من أمها، وذهب وعاد بالنقاب.
كان هذا النقاب بمثابة جواز سفر في رحلتها الجديدة بالجامعة، كان هو وجهها الجديد الذي سيجعل الجميع في موقف الحياد من خلقتها، وسيعطي الفرصة لباقي الأنثى التي في داخلها أن يخرج ويثبت وجوده.
وفي اليوم الذي ارتدت فيه حليمة النقاب للمرة الأولى، غمرتها ثقة وراحة لم تكن معهودة لديها، ورمقتها أمها وهي خارجة بنظرة دافئة كسيرة بقدر ما أشجت حليمة فإنها أعطتها مزيدًا من الراحة والهدوء.
مرت السنوات الأربع، وقد تملكها شعور بالثقة بنفسها، جلبه لها ذاك الحجاب الذي تختبئ وراءه، ذاك الحجاب الذي كان يمثل لها درعًا يقيها من سهام العيون التي لطلما أحرقت مهجتها، وأرقت مضجعها.
تخرجت حليمة من الجامعة، وآن الآوان لكي تخوض غمار تجربة جديدة، وزملاء جدد، وعالم جديد، ولا ضير في ذلك، ودرعها معها، يقيها من الغمز واللمز، وفي مكتب المحامي الذي تتدرب فيه كان لها أن تثبت وجودها.
لم يكن حسين زميلها في مكتب المحاماة من ذاك الصنف من الشباب الذين تستهويهم العلاقات مع الجنس الآخر، فقد كان كبير إخوته، ولا شاغل له سوى دراسته وقضاء طلبات أمه وأبيه، وقد تخرج من القانون وعمل في ذات المكتب الذي تعمل فيه حليمة.
في ردهات المحكمة، وأثناء التحضير للقضايا بالمكتب، كان لزامًا على الجميع مشاركة الآراء، وكان مكتب المحاماة أشبه بخلية نحل، يعمل فيه الجميع بجد ونشاط، فلم تكن ثمة علاقات داخل المكتب سوى علاقات العمل، ولم يكن ذاك البهرج الذي يعلو الجميلات، يسترعي الاهتمام، وإن كان يلفت الأنظار! فما كان يجعل الشخص محل اهتمام هو كم المعلومات القانونية التي يحيط بها، وما يحوزه من مبادئ وأحكام وقوانين كانوا يتلقفونها بشغف ونهم، وكانت حليمة أكثر الموجودات حضورًا للذهن، وطلبًا للمعلومة، لذا فقد باتت محط اهتمام الجميع، وبدت وكأنها مشرفة بالمكتب لا متدربة.
لقد غطى النقاب الدمامة، وظهرت الأنثى الذكية التي تستهوي الرجال شاخصة، لدرجة أن الغيرة بدأت تتسلل إلى نفوس الجميلات من زميلاتها.
كان حسين شغوفًا بعمله، وهو من نوع حليمة، يعمل بدأب، لذا لم تجد سواه لتسأل وتستشير عندما تقف أمامها معضلة قانونية، وهو الآخر كان يجد نفسه مضطرًا لاستشارتها وسؤالها بين الفينة والآخرى، ومع الوقت أصبح كل منهما مكملاً للآخر، وقد استهواه فيها هدوؤها، وانكبابها على عملها، وقلة اكتراثها بمن حولها.
مع الوقت تحولت المحكمة، وردهاتها، ومكتب المحاماة إلى واحة غنّاء بالنسبة إليهما، يرف لها قلب كل منهما في الليل، ويكون اللقاء بينهما في تلك الواحة في الصباح، وفي المساء..
كان يمنعهما الحياء عن الاتصال الدائم سوى فيما يتطلبه العمل، وكانت اللقاءات والحوارات بينهما كأنها قطرات عطر تنتشي بها نفس كل منهما، وكان بروتوكول هذا العطر أن يكون التضوع منه قطرة قطرة، ودون أن يكون بالأمر تصريح ولا تلميح، فكلاهما يحدث نفسه بما يشعر به تجاه الآخر، وكلاهما يرى أن أجمل ما في الأمر أن يظل كما هو، وكلاهما واثق في أن الآخر يعلم ما يعلم، ويشعر بما يشعر، ولا حاجة لأكثر من هذا!
كان الأمر بالنسبة إلى حسين متوقفا على قرار يتخذه للارتباط الرسمي بحليمة، وما كان حائلاً بينه وبين ذاك القرار هو إمكانياته المادية، فهو ما يزال في مستهل حياته، ومبدؤه أن التصريح بالإعجاب يعني الذهاب مباشرة إلى بيت الأسرة، والارتباط بمن يحب، لذا فقد آثر عدم التصريح ولا التلميح، ويكفي ما يشعر به من سعادة اللقاء، وحرقة الفراق.
حليمة كان الأمر بالنسبة إليها مختلفًا، فجمالها الحقيقي يقف بينه وبين ظهوره ذاك الوجه القبيح الذي دفنته بنقابها فباتت محط اهتمام وموضع غيرة ممن جمالهن مجرد قشرة تخفي قبحًا في نفوسهن.. لذا كانت ترجع إلى بيتها بنفسٍ غير تلك التي تأتي بها إلى العمل، وقد تطور الأمر إلى ما يشبه القلق، ثم الخوف، وقد بدا لكليهما أنه لا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر.
لقد كان تصريح حسين بأنه يرغب في التعرف على أسرتها، بمثابة جرس إنذار لها من أن اللعبة قد وصلت إلى نهايتها، وأن سرها الدفين قد بات عرضة للانكشاف، وأن عليها أن تلوذ للاختباء بين جموع الناس، عليها أن تختفي مؤقتًا لتظهر من جديد، وتخوض تجربة تطلق فيها جمالها وأنوثتها، على أن يظل هذا من وراء النقاب!
الأربعاء
1/ 5/ 2019م
أظهر الكل ..يلعب القانون في المجتمعات الحديثة دورًا مهمًا في ترسيخ قيم العدالة بما يتفق وما تراه الجماعة لا بما يجب أن يكون، والجماعة هنا هي الشعب في إقليمٍ معين، أي في الدولة بمفهومها المعاصر التي هي شعبٌ وسلطةٌ وإقليمٌ.
فالقانون لا يعكس المثل العليا، ولا القواعد الطبيعية التي هي قوانين الفطرة –برغم أنهما نظريًا من مصادر القانون- بقدر ما يعكس إرادة مجموعة من البشر في رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ، حتى ولو كانت هذه الإرادة تتعارض وناموس الخليقة الذي هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها البشر مع اختلاف بيئاته ...
يلعب القانون في المجتمعات الحديثة دورًا مهمًا في ترسيخ قيم العدالة بما يتفق وما تراه الجماعة لا بما يجب أن يكون، والجماعة هنا هي الشعب في إقليمٍ معين، أي في الدولة بمفهومها المعاصر التي هي شعبٌ وسلطةٌ وإقليمٌ.
فالقانون لا يعكس المثل العليا، ولا القواعد الطبيعية التي هي قوانين الفطرة –برغم أنهما نظريًا من مصادر القانون- بقدر ما يعكس إرادة مجموعة من البشر في رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ، حتى ولو كانت هذه الإرادة تتعارض وناموس الخليقة الذي هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها البشر مع اختلاف بيئاتهم وألوانهم وألسنتهم وأزمانهم، تلك القواعد التي يحتاج الخروج على أيٍ منها إلى تبرير خاص، في الوقت الذي لا يحتاج تطبيقها إلى أي تبرير.
إن هذه النقطة بالتحديد هي الفارق بين القانون الوضعي والقانون السماوي (الشريعة)، فالشريعة هي تقنين للفطرة في شكل أحكام يتعبد المرء باتباعها وامتثالها، بينما القانون الوضعي هو أحكام تواضعت عليها الجماعة كونها تعبر عن مجموعة من الأطر التي تواضعوا عليها، والتي تحمل طابعًا نفعيًا محضًا.
من هنا جاء رفض فكرة القانون الوضعي من أتباع الوحي، فأتباع الوحي سواء أكانوا رجال كهنوت، أم فقهاء - فنحن هنا لا نتكلم عن دينٍ بعينه- يرون أن فكرة القانون الوضعي تقوم على مخالفة الناموس أو الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
إن رفض القانون الوضعي من قبل رجال الدين ربما له مبرره ليس فقط من جهة كنهه، ولكن من جهة فكرته، فالفكرة أساسها رفض سيطرة غير العقل على الإنسان، وهي من إرهاصات التخلص من سيطرة الكنيسة في القرون الوسطى والإعلان عن "موت الإله!!".
فما يخص الشريعة الإسلامية، فإنها لم تقف حائلا بين الإنسان وشغفه في التنقيب عن الحقيقة في شتى المجالات، وكانت رسالة السماء إلى أهل الأرض أن: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا"، وقد أشار القرآن إلى دور العلماء في فك رموز هذه الحياة، وكشف أسرارها فجاء في سورة العنكبوت: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". إذن نحن لسنا بصدد شريعة تجعل الحقيقة حكرا على سدنتها، ولسنا أيضًا بصدد شريعة قاصرة، فيلجأ المؤمنون بها إلى غيرها لتنظيم حياتهم، نحن بصدد شريعة أشار الكتاب الذي يحويها إلى أنها شاملة، حيث قال القرآن: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". لكن تبقى إشكالية جوهرية تحتاج إلى نظر.
إن الشريعة الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة النبوية بشكل مباشر ليست كبيرة الحجم كتلك التي بين أيدينا اليوم، فآيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتعدى الخمسمئة آية، من مجموع ستة آلاف ومئتين وستة وثلاثين آية، أي أن الشريعة أو القانون الإسلامي الذي يحتوي منظومة (افعل ولا تفعل) لا يشغل سوى 8 % من مجموع آيات القرآن الكريم، وقد جاءت السنة النبوية مفصّلة لآيات الأحكام في القرآن الكريم، ومنشئة لبعض الأحكام على اعتبار أنها الشق اللآخر من الوحي، لكن أحاديث الأحكام لم تتعد هي الأخرى بضع مئات من الأحاديث جمعها الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600ه في كتابه عمدة الأحكام الذي احتوى أربعمئة وتسعة عشر حديثًا، هي جملة ما احتوى من أحكام في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنّ ما بين أيدينا من كتب الفقه وأبوابه يفوق هذا أضعافا مضاعفة، ولم يسم الفقهاء ما بسطوه في كتبهم بناء على فهمهم لهذه الآيات والأحاديث المحدودة شريعة، بل سموه فقهًا، أي فهما، وهذا يعني أننا أمام فهم غير مقدس، حتى وإن بُني على نصوص مقدسة، ولو استعرنا المصطلحات بناء على أنه لا مشاحة في الاصطلاح فسنقول إننا بتعاملنا مع المنظومة الفقهية التي سطرها الفقهاء في كتبهم، والتي اختلفت بحسب الفهم، وخاصة في جانب المعاملات، ونتيجة هذا الاختلاف، نكون أمام قانونٍ وضعي مؤسس على فهم الشريعة الإسلامية! وقد تحيد بعض الآراء عن هذه الشريعة نتيجة الخطأ في فهم النص الشرعي! فثمة فرق بين الحكم المستنبط من النص وبين النص ذاته، لذا فلا غرابة في الاختلاف بين العلماء الذي ينتج عنه وجود أحكام مختلفة مصدرها نصٌ واحد، فلو قلنا إن هذه الأحكام هي الشريعة فسنكون أمام شريعة متعددة يناقض بعضها بعضًا، والواقع أن الشريعة هي ذات النصوص التي هي كالمنهل بالنسبة إلى وارديه، وكلٌ ينهل بحسب فهمه، ويضع بناء على الفهم الحكم الذي ينسب إليه لا إلى ذات الشريعة، فيكون هذا فقه أبي حنيفة، وذاك فقه مالك، وهكذا، وتبقى حجية الإجماع، وتقديمه على النص دليلا على صحة ما نقول، وهذا وذاك غير ملزم إلا إذا اعتمده القضاء وقضى به، فيكون وجه الإلزام مستمدا من سيادة الدولة لا من أصل الحكم، ونكون بذلك أمام قانون وضعي، قد يصيب عين الحق، وقد يخطئ، وللحاكم إذا أصاب أجران، وإذا أخطأ أجرٌ واحد.
إن القانون الوضعي بالمفهوم الحديث ليس سوى مجموعة من القواعد تواضعت مجموعة من البشر على اعتمادها نظامًا يتم التحاكم إليه أيًا كان المصدر، وقد يوافق بعضها أو جلها الشريعة، وقد تكون الموافقة من باب عدم المخالفة، فنصوص الشرع محدودة، وطالما أن القاعدة القانونية التي ألزمت الجماعة نفسها بها لم تخالف هذه النصوص فقد وافقتها إذا حققت مصلحة معتبرة، أو لم تفوت بتطبيقها مصلحة معتبرة، والأمر كله يقع في دائرة السياسة التي عرّفها ابن عقيل بأنها: "ما كان فعلا تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي"، وفي معرض بيان ذلك يستطرد ابن القيم ناقلا عن ابن عقيل قوله: فإن أردت بقولك "إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن..."، وهذا المنقول عن ابن القيم من كتابه الطرق الحكمية، وإن كان قد قصد به باب السياسة الشرعية، أي تلك التي يتم العمل بها في غير موارد النصوص، إلا إنه أساس فكرة وجود تصرفات ممن له ولاية الأمر دون أن يكون لها سند من منطوق النص، فهي تصرفات تجد سندها من المصلحة التي هي كلي الشريعة.
أخيرًا، ينبغي ألا نغفل نقطة أخرى مهمة تتعلق بإرادة تطبيق النص، ومصدر تلك الإرادة، وأثر ذلك في الفصل بين ما هو وضعي، وما هو ديني، مرجئًا ذلك إلى مقالة أخرى.
د. عبدالمجيد قاسم
الأحد: 25 شعبان 1438هـ، الموافق 21 مايو 2017م
أظهر الكل ..يلعب القانون في المجتمعات الحديثة دورًا مهمًا في ترسيخ قيم العدالة بما يتفق وما تراه الجماعة لا بما يجب أن يكون، والجماعة هنا هي الشعب في إقليمٍ معين، أي في الدولة بمفهومها المعاصر التي هي شعبٌ وسلطةٌ وإقليمٌ.
فالقانون لا يعكس المثل العليا، ولا القواعد الطبيعية التي هي قوانين الفطرة –برغم أنهما نظريًا من مصادر القانون- بقدر ما يعكس إرادة مجموعة من البشر في رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ، حتى ولو كانت هذه الإرادة تتعارض وناموس الخليقة الذي هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها البشر مع اختلاف بيئاته ...
يلعب القانون في المجتمعات الحديثة دورًا مهمًا في ترسيخ قيم العدالة بما يتفق وما تراه الجماعة لا بما يجب أن يكون، والجماعة هنا هي الشعب في إقليمٍ معين، أي في الدولة بمفهومها المعاصر التي هي شعبٌ وسلطةٌ وإقليمٌ.
فالقانون لا يعكس المثل العليا، ولا القواعد الطبيعية التي هي قوانين الفطرة –برغم أنهما نظريًا من مصادر القانون- بقدر ما يعكس إرادة مجموعة من البشر في رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ، حتى ولو كانت هذه الإرادة تتعارض وناموس الخليقة الذي هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها البشر مع اختلاف بيئاتهم وألوانهم وألسنتهم وأزمانهم، تلك القواعد التي يحتاج الخروج على أيٍ منها إلى تبرير خاص، في الوقت الذي لا يحتاج تطبيقها إلى أي تبرير.
إن هذه النقطة بالتحديد هي الفارق بين القانون الوضعي والقانون السماوي (الشريعة)، فالشريعة هي تقنين للفطرة في شكل أحكام يتعبد المرء باتباعها وامتثالها، بينما القانون الوضعي هو أحكام تواضعت عليها الجماعة كونها تعبر عن مجموعة من الأطر التي تواضعوا عليها، والتي تحمل طابعًا نفعيًا محضًا.
من هنا جاء رفض فكرة القانون الوضعي من أتباع الوحي، فأتباع الوحي سواء أكانوا رجال كهنوت، أم فقهاء - فنحن هنا لا نتكلم عن دينٍ بعينه- يرون أن فكرة القانون الوضعي تقوم على مخالفة الناموس أو الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
إن رفض القانون الوضعي من قبل رجال الدين ربما له مبرره ليس فقط من جهة كنهه، ولكن من جهة فكرته، فالفكرة أساسها رفض سيطرة غير العقل على الإنسان، وهي من إرهاصات التخلص من سيطرة الكنيسة في القرون الوسطى والإعلان عن "موت الإله!!".
فما يخص الشريعة الإسلامية، فإنها لم تقف حائلا بين الإنسان وشغفه في التنقيب عن الحقيقة في شتى المجالات، وكانت رسالة السماء إلى أهل الأرض أن: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا"، وقد أشار القرآن إلى دور العلماء في فك رموز هذه الحياة، وكشف أسرارها فجاء في سورة العنكبوت: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". إذن نحن لسنا بصدد شريعة تجعل الحقيقة حكرا على سدنتها، ولسنا أيضًا بصدد شريعة قاصرة، فيلجأ المؤمنون بها إلى غيرها لتنظيم حياتهم، نحن بصدد شريعة أشار الكتاب الذي يحويها إلى أنها شاملة، حيث قال القرآن: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". لكن تبقى إشكالية جوهرية تحتاج إلى نظر.
إن الشريعة الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة النبوية بشكل مباشر ليست كبيرة الحجم كتلك التي بين أيدينا اليوم، فآيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتعدى الخمسمئة آية، من مجموع ستة آلاف ومئتين وستة وثلاثين آية، أي أن الشريعة أو القانون الإسلامي الذي يحتوي منظومة (افعل ولا تفعل) لا يشغل سوى 8 % من مجموع آيات القرآن الكريم، وقد جاءت السنة النبوية مفصّلة لآيات الأحكام في القرآن الكريم، ومنشئة لبعض الأحكام على اعتبار أنها الشق اللآخر من الوحي، لكن أحاديث الأحكام لم تتعد هي الأخرى بضع مئات من الأحاديث جمعها الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600ه في كتابه عمدة الأحكام الذي احتوى أربعمئة وتسعة عشر حديثًا، هي جملة ما احتوى من أحكام في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنّ ما بين أيدينا من كتب الفقه وأبوابه يفوق هذا أضعافا مضاعفة، ولم يسم الفقهاء ما بسطوه في كتبهم بناء على فهمهم لهذه الآيات والأحاديث المحدودة شريعة، بل سموه فقهًا، أي فهما، وهذا يعني أننا أمام فهم غير مقدس، حتى وإن بُني على نصوص مقدسة، ولو استعرنا المصطلحات بناء على أنه لا مشاحة في الاصطلاح فسنقول إننا بتعاملنا مع المنظومة الفقهية التي سطرها الفقهاء في كتبهم، والتي اختلفت بحسب الفهم، وخاصة في جانب المعاملات، ونتيجة هذا الاختلاف، نكون أمام قانونٍ وضعي مؤسس على فهم الشريعة الإسلامية! وقد تحيد بعض الآراء عن هذه الشريعة نتيجة الخطأ في فهم النص الشرعي! فثمة فرق بين الحكم المستنبط من النص وبين النص ذاته، لذا فلا غرابة في الاختلاف بين العلماء الذي ينتج عنه وجود أحكام مختلفة مصدرها نصٌ واحد، فلو قلنا إن هذه الأحكام هي الشريعة فسنكون أمام شريعة متعددة يناقض بعضها بعضًا، والواقع أن الشريعة هي ذات النصوص التي هي كالمنهل بالنسبة إلى وارديه، وكلٌ ينهل بحسب فهمه، ويضع بناء على الفهم الحكم الذي ينسب إليه لا إلى ذات الشريعة، فيكون هذا فقه أبي حنيفة، وذاك فقه مالك، وهكذا، وتبقى حجية الإجماع، وتقديمه على النص دليلا على صحة ما نقول، وهذا وذاك غير ملزم إلا إذا اعتمده القضاء وقضى به، فيكون وجه الإلزام مستمدا من سيادة الدولة لا من أصل الحكم، ونكون بذلك أمام قانون وضعي، قد يصيب عين الحق، وقد يخطئ، وللحاكم إذا أصاب أجران، وإذا أخطأ أجرٌ واحد.
إن القانون الوضعي بالمفهوم الحديث ليس سوى مجموعة من القواعد تواضعت مجموعة من البشر على اعتمادها نظامًا يتم التحاكم إليه أيًا كان المصدر، وقد يوافق بعضها أو جلها الشريعة، وقد تكون الموافقة من باب عدم المخالفة، فنصوص الشرع محدودة، وطالما أن القاعدة القانونية التي ألزمت الجماعة نفسها بها لم تخالف هذه النصوص فقد وافقتها إذا حققت مصلحة معتبرة، أو لم تفوت بتطبيقها مصلحة معتبرة، والأمر كله يقع في دائرة السياسة التي عرّفها ابن عقيل بأنها: "ما كان فعلا تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي"، وفي معرض بيان ذلك يستطرد ابن القيم ناقلا عن ابن عقيل قوله: فإن أردت بقولك "إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن..."، وهذا المنقول عن ابن القيم من كتابه الطرق الحكمية، وإن كان قد قصد به باب السياسة الشرعية، أي تلك التي يتم العمل بها في غير موارد النصوص، إلا إنه أساس فكرة وجود تصرفات ممن له ولاية الأمر دون أن يكون لها سند من منطوق النص، فهي تصرفات تجد سندها من المصلحة التي هي كلي الشريعة.
أخيرًا، ينبغي ألا نغفل نقطة أخرى مهمة تتعلق بإرادة تطبيق النص، ومصدر تلك الإرادة، وأثر ذلك في الفصل بين ما هو وضعي، وما هو ديني، مرجئًا ذلك إلى مقالة أخرى.
د. عبدالمجيد قاسم
الأحد: 25 شعبان 1438هـ، الموافق 21 مايو 2017م
أظهر الكل ..يلعب القانون في المجتمعات الحديثة دورًا مهمًا في ترسيخ قيم العدالة بما يتفق وما تراه الجماعة لا بما يجب أن يكون، والجماعة هنا هي الشعب في إقليمٍ معين، أي في الدولة بمفهومها المعاصر التي هي شعبٌ وسلطةٌ وإقليمٌ.
فالقانون لا يعكس المثل العليا، ولا القواعد الطبيعية التي هي قوانين الفطرة –برغم أنهما نظريًا من مصادر القانون- بقدر ما يعكس إرادة مجموعة من البشر في رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ، حتى ولو كانت هذه الإرادة تتعارض وناموس الخليقة الذي هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها البشر مع اختلاف بيئاته ...
يلعب القانون في المجتمعات الحديثة دورًا مهمًا في ترسيخ قيم العدالة بما يتفق وما تراه الجماعة لا بما يجب أن يكون، والجماعة هنا هي الشعب في إقليمٍ معين، أي في الدولة بمفهومها المعاصر التي هي شعبٌ وسلطةٌ وإقليمٌ.
فالقانون لا يعكس المثل العليا، ولا القواعد الطبيعية التي هي قوانين الفطرة –برغم أنهما نظريًا من مصادر القانون- بقدر ما يعكس إرادة مجموعة من البشر في رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ، حتى ولو كانت هذه الإرادة تتعارض وناموس الخليقة الذي هو مجموعة القواعد التي يتفق عليها البشر مع اختلاف بيئاتهم وألوانهم وألسنتهم وأزمانهم، تلك القواعد التي يحتاج الخروج على أيٍ منها إلى تبرير خاص، في الوقت الذي لا يحتاج تطبيقها إلى أي تبرير.
إن هذه النقطة بالتحديد هي الفارق بين القانون الوضعي والقانون السماوي (الشريعة)، فالشريعة هي تقنين للفطرة في شكل أحكام يتعبد المرء باتباعها وامتثالها، بينما القانون الوضعي هو أحكام تواضعت عليها الجماعة كونها تعبر عن مجموعة من الأطر التي تواضعوا عليها، والتي تحمل طابعًا نفعيًا محضًا.
من هنا جاء رفض فكرة القانون الوضعي من أتباع الوحي، فأتباع الوحي سواء أكانوا رجال كهنوت، أم فقهاء - فنحن هنا لا نتكلم عن دينٍ بعينه- يرون أن فكرة القانون الوضعي تقوم على مخالفة الناموس أو الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
إن رفض القانون الوضعي من قبل رجال الدين ربما له مبرره ليس فقط من جهة كنهه، ولكن من جهة فكرته، فالفكرة أساسها رفض سيطرة غير العقل على الإنسان، وهي من إرهاصات التخلص من سيطرة الكنيسة في القرون الوسطى والإعلان عن "موت الإله!!".
فما يخص الشريعة الإسلامية، فإنها لم تقف حائلا بين الإنسان وشغفه في التنقيب عن الحقيقة في شتى المجالات، وكانت رسالة السماء إلى أهل الأرض أن: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا"، وقد أشار القرآن إلى دور العلماء في فك رموز هذه الحياة، وكشف أسرارها فجاء في سورة العنكبوت: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". إذن نحن لسنا بصدد شريعة تجعل الحقيقة حكرا على سدنتها، ولسنا أيضًا بصدد شريعة قاصرة، فيلجأ المؤمنون بها إلى غيرها لتنظيم حياتهم، نحن بصدد شريعة أشار الكتاب الذي يحويها إلى أنها شاملة، حيث قال القرآن: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". لكن تبقى إشكالية جوهرية تحتاج إلى نظر.
إن الشريعة الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة النبوية بشكل مباشر ليست كبيرة الحجم كتلك التي بين أيدينا اليوم، فآيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتعدى الخمسمئة آية، من مجموع ستة آلاف ومئتين وستة وثلاثين آية، أي أن الشريعة أو القانون الإسلامي الذي يحتوي منظومة (افعل ولا تفعل) لا يشغل سوى 8 % من مجموع آيات القرآن الكريم، وقد جاءت السنة النبوية مفصّلة لآيات الأحكام في القرآن الكريم، ومنشئة لبعض الأحكام على اعتبار أنها الشق اللآخر من الوحي، لكن أحاديث الأحكام لم تتعد هي الأخرى بضع مئات من الأحاديث جمعها الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 600ه في كتابه عمدة الأحكام الذي احتوى أربعمئة وتسعة عشر حديثًا، هي جملة ما احتوى من أحكام في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنّ ما بين أيدينا من كتب الفقه وأبوابه يفوق هذا أضعافا مضاعفة، ولم يسم الفقهاء ما بسطوه في كتبهم بناء على فهمهم لهذه الآيات والأحاديث المحدودة شريعة، بل سموه فقهًا، أي فهما، وهذا يعني أننا أمام فهم غير مقدس، حتى وإن بُني على نصوص مقدسة، ولو استعرنا المصطلحات بناء على أنه لا مشاحة في الاصطلاح فسنقول إننا بتعاملنا مع المنظومة الفقهية التي سطرها الفقهاء في كتبهم، والتي اختلفت بحسب الفهم، وخاصة في جانب المعاملات، ونتيجة هذا الاختلاف، نكون أمام قانونٍ وضعي مؤسس على فهم الشريعة الإسلامية! وقد تحيد بعض الآراء عن هذه الشريعة نتيجة الخطأ في فهم النص الشرعي! فثمة فرق بين الحكم المستنبط من النص وبين النص ذاته، لذا فلا غرابة في الاختلاف بين العلماء الذي ينتج عنه وجود أحكام مختلفة مصدرها نصٌ واحد، فلو قلنا إن هذه الأحكام هي الشريعة فسنكون أمام شريعة متعددة يناقض بعضها بعضًا، والواقع أن الشريعة هي ذات النصوص التي هي كالمنهل بالنسبة إلى وارديه، وكلٌ ينهل بحسب فهمه، ويضع بناء على الفهم الحكم الذي ينسب إليه لا إلى ذات الشريعة، فيكون هذا فقه أبي حنيفة، وذاك فقه مالك، وهكذا، وتبقى حجية الإجماع، وتقديمه على النص دليلا على صحة ما نقول، وهذا وذاك غير ملزم إلا إذا اعتمده القضاء وقضى به، فيكون وجه الإلزام مستمدا من سيادة الدولة لا من أصل الحكم، ونكون بذلك أمام قانون وضعي، قد يصيب عين الحق، وقد يخطئ، وللحاكم إذا أصاب أجران، وإذا أخطأ أجرٌ واحد.
إن القانون الوضعي بالمفهوم الحديث ليس سوى مجموعة من القواعد تواضعت مجموعة من البشر على اعتمادها نظامًا يتم التحاكم إليه أيًا كان المصدر، وقد يوافق بعضها أو جلها الشريعة، وقد تكون الموافقة من باب عدم المخالفة، فنصوص الشرع محدودة، وطالما أن القاعدة القانونية التي ألزمت الجماعة نفسها بها لم تخالف هذه النصوص فقد وافقتها إذا حققت مصلحة معتبرة، أو لم تفوت بتطبيقها مصلحة معتبرة، والأمر كله يقع في دائرة السياسة التي عرّفها ابن عقيل بأنها: "ما كان فعلا تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي"، وفي معرض بيان ذلك يستطرد ابن القيم ناقلا عن ابن عقيل قوله: فإن أردت بقولك "إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن..."، وهذا المنقول عن ابن القيم من كتابه الطرق الحكمية، وإن كان قد قصد به باب السياسة الشرعية، أي تلك التي يتم العمل بها في غير موارد النصوص، إلا إنه أساس فكرة وجود تصرفات ممن له ولاية الأمر دون أن يكون لها سند من منطوق النص، فهي تصرفات تجد سندها من المصلحة التي هي كلي الشريعة.
أخيرًا، ينبغي ألا نغفل نقطة أخرى مهمة تتعلق بإرادة تطبيق النص، ومصدر تلك الإرادة، وأثر ذلك في الفصل بين ما هو وضعي، وما هو ديني، مرجئًا ذلك إلى مقالة أخرى.
د. عبدالمجيد قاسم
الأحد: 25 شعبان 1438هـ، الموافق 21 مايو 2017م
أظهر الكل ..تمرُّ سنونٌ ثم تبلى خليقةٌ.. وما ودُّها بالقلب يبلى مع الدهرِ
يزيدُ نضارًا والمشيبُ يلفُني.. وأهرمُ إلا موضع الودِّ في الصدرِ
توقف عندي الدهرُ لمّا ذكرتها.. ولا ريب أنّا سائران ولا ندري
يُفتي بعض المشايخ في نوازل السياسة، ويعتمدون في فتاواهم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، أو بين المفاسد والمفاسد، لكني أظنهم لا يرجعون إلى أهل الاختصاص وهم أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية والقانون الدولي حتى تتبين لهم المصالح والمفاسد بشكلٍ جلي.. مع العلم أن أغلب جهابذة هذه العلوم ليسوا عرباً بل ليسوا مسلمين.. ومنهم اليهود والمسيحون والملاحدة.. ومشايخنا ستحول بينهم وبين سماع رأي هؤلاء أمور كثيرة من بينها اللغة..
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما حكم أخذ رأي هؤلاء في نوازل الس ...
يُفتي بعض المشايخ في نوازل السياسة، ويعتمدون في فتاواهم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، أو بين المفاسد والمفاسد، لكني أظنهم لا يرجعون إلى أهل الاختصاص وهم أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية والقانون الدولي حتى تتبين لهم المصالح والمفاسد بشكلٍ جلي.. مع العلم أن أغلب جهابذة هذه العلوم ليسوا عرباً بل ليسوا مسلمين.. ومنهم اليهود والمسيحون والملاحدة.. ومشايخنا ستحول بينهم وبين سماع رأي هؤلاء أمور كثيرة من بينها اللغة..
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما حكم أخذ رأي هؤلاء في نوازل السياسية؟ وهل يمكن أن تضم لجان الإفتاء الجماعي خبراء في شتى المجالات بقطع النظر عن دينهم؟..
أنا شخصياً، وحسب فهمي المتواضع، أرى ضرورة أخذ رأي أهل الدراية في موضوع النازلة أياً كان دينهم وجنسهم، فالحكمة ضالة المؤمن، وقد قال ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية: "قال شيخنا رحمه الله: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع: "هو ضرورة"، يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا".
أظهر الكل ..