تحميل ..
--------------------------------------------
كما هو اليوم، وكما كان عليه الأمر في الماضي، ظلت "بحيرة" الأبيض المتوسط دوما ساحة صراع وتطاحن بين إمبراطوريات الضفة الشمالية والجنوبية للمتوسط. تطاحن كان مرده تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية بين حضارات الشمال الذي طالما اعتبر نفسه مركزا للحضارة ومصدرا لها على اعتبار أنه يملك تفويضا مقدسا لنشر قيم حضارته المرتقية، وبين حضارات الآخرين، وخاصة حضارات الجنوب البربرية الهمجية والمتخلفة حسب توصيف الش ... شذرات: يوم تجرأ الجنوب على الشمال
--------------------------------------------
كما هو اليوم، وكما كان عليه الأمر في الماضي، ظلت "بحيرة" الأبيض المتوسط دوما ساحة صراع وتطاحن بين إمبراطوريات الضفة الشمالية والجنوبية للمتوسط. تطاحن كان مرده تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية بين حضارات الشمال الذي طالما اعتبر نفسه مركزا للحضارة ومصدرا لها على اعتبار أنه يملك تفويضا مقدسا لنشر قيم حضارته المرتقية، وبين حضارات الآخرين، وخاصة حضارات الجنوب البربرية الهمجية والمتخلفة حسب توصيف الشماليين.
كان هذا هو المبرر في كل العصور وعبر التاريخ. ولعل أبرز نموذج لهذا التقاطب في الماضي البعيد، هو الصراع القرطاجي الروماني الذي اتخذ طابع تنافس ومزاحم بين قرطاج-الجنوب، وروما-الشمال.
معلوم أن الرومان كان من تقاليدهم الراسخة تماما مثل الإغريق، هو نعت جميع الشعوب المختلفة عنهم بالبرابرة والهمج، وذلك مهما بلغت مرتبة تلك الشعوب في سلم الارتقاء الحضاري.
في معمعة هذا الصراع، تجرأ الجنوب على الأقل منذ القرن الثاني قبل الميلاد ممثلا في قرطاج الإفريقية على الشمال ممثلا في روما وإمبراطوريتها. دارات بين الطرفين ثلاثة حروب طاحنة عرفت بالحروب البونية. وخلال الحرب البونية الثانية سيّرت الصدف للقرطاجيين قائدا استثنائيا له طموحات لا حد لها وهو حنبعل. وتحت قيادة هذا البطل الإفريقي تجرأت قرطاج على روما في مسعى إنهاء سطوة الرومان، فكانت مغامراته العسكرية التي لازالت تعتبر لحد الآن من أكثر التكتيكات العسكرية إبداعا وغموضا في نفس الوقت.
انطلق حنبعل بجيشه، وقد كان أغلبه من الأفارقة(الأمازيغ)، من جنوب إسبانيا، فعبر منها إلى فرنسا متحديا جميع العوائق الطبيعية، ثم دخل إلى إيطاليا بعد معارك شرسة مع الكثير من الأقوام الأوربية. وفي الوقت الذي كانت فيه أعناق الشعوب الأخرى في العالم القديم تشرأب نحو إيطاليا بانتظار نصر مظفر للأفارقة بما يحقق فناء روما وإنهاء غطرستها، فإن آلة الجنوب تعطلت فجأة قبل اقتحام روما لأسباب يطول ذكرها، فعاد الجنوبيون مولين الأدبار دون النصر المنشود الذي بذلوا في سبيبله الكثير من الجهد والمال.
وكما عاينا في الزمن الحالي، فإن لا شيء يمكن توقعه عند المس بكبرياء الشمال ومنازعته السيطرة سوى ارتكاب الفظاعات التي سجلت في الماضي مثلما دونت في كل العصور بمداد العار الذي لحق لإنسانية بسبب هوس الشمال بالإمساك بزمام السيطرة والهيمنة. وكذلك كان، فقد جمع الرومان كل ما بقي من قواهم الخائرة، وحشدوا إلى جانبهم الأقوام الأوربية لبدء رحلة الغزو المقدس نحو الجنوب. وهكذا قصدوا إفريقيا وبالضبط جزئها الشرقي حيث توجد قرطاج.
على مشارف المدين الإفريقية، ثم بداخل أسوارها، جرت إحدى أشهر وأشرس المعارك الحربية في التاريخ القديم. فقد أبدى القرطاجيون الأفارقة صنوف البسالة والتضحية في القتال والدود عن كبرياء مدينتهم حتى آخر رمق. لكن عزم الرومان على تصفية المدينة الإفريقية كانت أكبر بكثير مما يتصوره عقل.
فقد دخل الرومان إلى المدينة بعد حصار مطبق، بزعامة قائدهم سكيبيون، وهناك ارتكبوا إحدى أشنع المجازر المذكورة في التاريخ، وفي تاريخ الإنسانية ككل وفي تاريخ الشمال والغرب عموما المدعي للتحضر والتقدم والتفوق. فقد أبيدت المدينة بالكامل، بل أن سكيبيون الروماني وإمعانا في الانتقام الأعمى، قد امر الجنود الرومان بإحراق المدينة عن بكرة أبيها، بما فيها من معالم ودور عبادة ومساكن ومكتبات كانت تحوي الكتب والمخطوطات البونية، لا بل أمر بعد ذلك ولكي تكتمل فصول الجريمة، بحرث المدينة ورشّها بالملح لكي لا تقوم لها قائمة بعد ذلك، ولكي تبنى على أنقاضها مدينة تذكر بمرور الرومان.
بهذه الواقعة من التاريخ القديم، تتبدى لنا بعض معالم حاضرنا، فهذا الغرب الذي يملك ناصية التقدم اليوم، إنما بنى ما توصل إليه بطريق البطش والتخريب والهدم لبناء مجده الخاص. فقد ظل الشمال حريصا على الدوام على وأد أي محاولة لنشوء بؤر حضارية متقدمة في الجنوب، وهو لايزال يتصرف اليوم بنفس المنطق، بنفس العزم والحزم والحرض على الإمساك لوحده ودون منازع بمشعل الحضارة المفترى عليها، وجعل الآخرين مذعنين مجرد تبّع ومستهلكين. ودائما ما يتم مصادرة الآخر ووقف أي تململ حضاري من جانبه بنفس المبررات الحضارية الزائفة.
----------------------------
ذ. عبد اللطيف الركيك أظهر الكل ..
تحميل ..
نُبْذة
عبد اللطيف الركيك
@Ereguigue
عضو 2016-04-27 19:33:52
المكتبة مشاهدة الكل
لا كتب لحد الآن في هذه المكتبة
المتابِعون (9)
مشاهدة الكل
المتابَعون (10)
مشاهدة الكل